القصة السادسة عشرة
الأسى لا يُنسى
الأسى لا يُنسى
حين ازداد طغيان فرعون وأذاه على بني إسرائيل وبالغ موسى وهارون عليهما السلام في النصح والتذكير لآل فرعون وأظهار المعجزات الباهرات التي تحمل العاقل على تصديقهما والإيمان بدعوتهما ، ثم وجدا القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ موسى يدعو عليهم ، وهارون معه يُؤمّن على دعائه .
ومِن حق من يدعو على الآخرين أن يذكر أولاً سبب الدعاء عليهم لئلا يتوهم السامع أن الدعاء دون سبب ولا ذنب ، ولهذا قدّم موسى عليه السلام السبب والجناية التي استحق فرعون وقومه والملأ منهم دعوة نبيّهم بالهلاك " وقال موسى : ربَّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمسْ على أموالهم ، واشدُدْ على قلوبهم ، فلا يُؤمنوا حتى يَرَوُا العذاب الأليمَ " فجاءهما الجواب السريع " قد أُجيبتْ دعوتُكما ، فاستقيما ، ولا تتّبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون " وهنا ينبهنا الله تعالى أن العبد المستقيم على طاعة ربه مستجاب الدعوة . فلا يفرّطْ في التزام شرع ربه ، ولا يتبعْ طرق الغواية والضلال .
تفتّحت – إذاً- أبواب الدعاء ، فأوحى الله إلى نبيه موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلاً ، وأن يعبر بهم البحر ، ويذهب بهم إلى أرض فلسطين . فتجهّز موسى وأخوه ومن معهما من المؤمنين وبقية الإسرائيليين دون أن يعلم بهم الأقباط وعيونُ فرعون ، وساروا متجهين إلى البحر الأحمر – بحر القلزم – وأخذوا يجدون السير مخافة أن يدركهم فرعونُ وجنوده . فلما كان الصباح نظر الأقباط ، فوجدوا ديار بني إسرائيل قد خلت منهم ، فلم يبقَ فيها ساكن ، فأخبروا فرعون ، فجهز جيشاً جرّاراً ، وخرج على عقِبهم ، وصمم على استئصال بني إسرائيل ، فأدركهم في اليوم الثاني مع طلوع الشمس .
وكان بنو إسرائيل قد نظروا خلفهم فارتاعوا إذ رأوا فرعون بجيشه العرمرم يسرع نحوهم ، فأيقنوا بالخطر والهلاك ، وضجّوا بالصياح والعويل ، وقالوا : يا موسى " إنا لمُدرَكون " فأجابهم إجابة الوائق بربه المعتمد عليه " كلاّ ؛ إن معي ربي ، سيهدين "
هنالك أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى أن يضرب البحر ، فضربه بعصاه ، فانشقَّ عن طريق يابسة بقدرة الله تعالى ، وارتفع الماء على جانبيه ارتفاع الجبل العظيم ، وكأنهما جداران مبنيان من الزجاج القوي يمنعان الماء من ورائهما ! " فكان كل فرق كالطود العظيم " .
ورأى بنو إسرائيل هذه الآية العظمى فجاوزوه على انني عشر ممراً – فهم اثنا عشر فخذاً . وكان موسى وأخوه عليهما السلام وراء قومهما يشجعانهم على الإسراع في العبور – وهذا دأب القائد الرحيم ، الذي يحافظ على قومه ، ويهتم بأمرهم ، ويسعى لحمايتهم والتأكد من نجاتهم .
كان فرعون قد وصل بجنوده إلى شاطئ البحر فأسرع إلى الممر يتبع بني إسرائيل . وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود كما كان ماءً يمنع الجيش الزاحف أن يصل إليهم . وأراد الله تعالى أمراً آخر ، أراد سبحانه أن يُغرق فرعون وجنوده ليكونوا عبرة لمن يعتبر . فأوحى الحق سبحانه إلى نبيه موسى أن يترك البحر على حاله " واترك البحر رهواً - أي ساكناً – إنهم جندٌ مُغرقون "
قال تعالى " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ،
فأتبعهم فرعونُ وجنودُه بَغياً وعَدْواً ،
حتى إذا أدركه الغرقُ قال :
(آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ،
وأنا من المسلمين ) " .
قال جبريل عليه السلام مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا رسول الله ، لو رأيتني حين سمعت فرعون يقول ما قال ، وأنا آخذ من وحل البحر ، فأدُسّه في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله !!!
وما فعل جبريل ذلك إلا كُرهاً للطاغية المتجبر ، وحنقاً عليه ، فقد أذاق المؤمنين ويلاتٍ ، وويلات ، قتل ذكورهم ، واستحيا نساءهم ، وسخّرهم لخدمته وخدمة أعوانه ، وعاملهم معاملة العبيد ، فتن المسلمين وحاربهم ، ونشر الكفر والفساد ، واّدعى الألوهيّة ، فخاف جبريل أن يقبل الله إيمانه دون أن ينال عقابه .
وهنا سؤال لا بد من طرحه :
إن فرعون تاب ثلاث مرات في هذا الموقف : إحداها قولُه " أمنتُ "
وثانيها قولُه " لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل "
وثالثها قوله " وأنا من المسلمين "
فما السبب في عدم قبول التوبة والإنابة إلى الله ؟
والجواب : سبق السيف العذل ! فقد جاء إيمانُه وهو يُغَرغِر حين صار في حكم الميت أو كادَ ، فهذه توبة اليائس ، وهذا الإيمان إيمان المضطر المكره على الإيمان ، وفي هذه الحال لا تكون التوبة صادقة ، ولا الإيمان مقبولاً ، لأنه إيمان المُكره اليائس من الحياة الذي عاين عذاب الله . " فلم يك ينفعهم إيمانُهم لما رأوا بأسنا " وهذا كمن صدر عليه الحكم بالإعدام ، لا ينفعه الندم ولا الاعتذار .
كما أن التوبة كانت ليُتوصل بها إلى دفع البليّة الحاضرة ، والمحنة النازلة ، ولم يكن فيها إخلاص ، إنما هي ضرب من النفاق ، ولهذا جاء الجواب بالتوبيخ " آلآن !؟ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ؟ " وهلاّ تبت قبل هذا ، ورجعت إلى ربك قبل أن يحيط بك الهلاك ، وهلاّ آمنت قبل هذا الزمان .
1- رواه الترمذي في كتاب التفسير /باب من سورة يونس
ج/ 4. ص / 287
2- صحيح سنن الترمذي ج/ 3 ص/61
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة عشرة
( إنه يتصدّق)
دكتور عثمان قدري مكانسي
قال التلميذ لشيخه:
ما المقصود – يا سيدي – بقوله صلى الله عليه وسلم : " ما نقص مالُ عبدٍ من صدقة " ؟ أليس يخرج من يديه ؟ فكيف لا ينقص؟!
قال الشيخ :
لأن الله سبحانه وتعالى يبارك له في أصل رزقه ، ويوسّع عليه ، وقد يحفظه من مصيبة كاد يقع فيها فيَصرِف للخلاص منها أكثر مما تصدّق به بكثير .ألم تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم :" ما مِن يوم يصبح العبادُ فيه إلاّ ملَكان ينزلان ، فيقول أحدُهما : اللهم أعط منفقاً خلَفاً ، ويقول اللآخر : اللهم أعط ممسكاً تَلَفاً . ؟
قال التلميذ : وممّ يقبل الله تعالى الزكاةَ والصدقةَ؟
قال الشيخ : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، من كسْبٍ حلال ومالٍ حلالٍ .
قال التلميذ : أوضح لي- يا سيدي- أكثر . كيف يُرْبي اللهُ الصدقات ؟.
قال الشيخ :
لقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم إنماء الصدقة وزيادتَها للعبد كرَجلٍ ولدتْ له فرسُه مُهراً ، فهو يعتني به ، يغذوه وينظفه ، حتى يصير ضخماً مثل الجبل ، ويرزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب .
قال التلميذ :
فكيف يثيب الله تعالى من تصدّق بنصيبٍ من حصاد أرضه – مثلاً - ؟
قال الشيخ : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك في قصة المزارع الكريم .
قال التلميذ : وما قصة المزارع الكريم يا شيخي ؟
قال الشيخ :
بينما رجل يمشي في أرض لا ماء فيها ولا زرع إذ سمع صوتاً ، فاتجه يميناً وشمالاً ، يبحث عن مصدره ، فلم يجد أحداً ، ثم عجب حين اتضح له أن الصوت إنما يسمعه من فوقه ، وليس أعلاه سوى السماء بغيومها التي تسوقها الرياح. فأرسل بصره ناحية السماء ، فلم يجد أحداً ،،، لا طيراً ولا بشراً ! بل هو يسمع صوتاً يفهمه .. إنه يقول : اسق حديقة عبد الله ، الرجل الصالح ... يا سبحان الله ؛ إن الإنسان لا يطير ، وإن الطير لا يتكلم بلسان بشري مبين ! إذاً فهو ملَك من ملائكة السماء ،،، فماذا يفعل ؟!
أحدّ بصرَه وتابع مسيرة السحاب ، فرأى سحابة تنفصل عن جمعها ، وتنطلق إلى مكانٍ ما ، فتبعها الرجل . ثم انهمر المطر منها فاجتمع إلى أرض ملساء ، ذات حجارة سوداء صمّ ، لا ينفد الماء إلى باطنها ، تميل إلى منخفض بدأ الماء يسيل نحوه ، ثم ينطلق فيه إلى أرض إلى جانبها أسفلَ منها ، فتتبّع الماءَ ، فإذا هي حديقة غنّاء مملوءةٌ خضرةً وفاكهةً ، ورجلٌ يحوّل الماء هنا وهناك ، ويسقي أرضه .
قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ردّ صاحب الأرض : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
قال الرجل العابر : ما اسمك يا أخا الإيمان ؟
قال صاحب الأرض : أنا عبد الله ... وذكر له الاسم الذي سمعه الرجل العابر في السحاب .. ولكن لِمَ تسألني عن اسمي ؟!
قال له عابر السبيل : لقد سمعت عجباً ورأيت عجباً .
قال صاحب الأرض : ما الذي سمعتَه عجباً ، ورأيتَه عجباً ؟
قال عابر السبيل : إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول لمن معه : اسق حديقة عبد الله الرجل الصالح ، فبالله عليك ؛ ما الذي تصنعه حتى أرضيت ربّ السماء؟!.
قال صاحب الأرض : أمَا وقد اطّلعْتَ على فضل الله عليّ فاعلم – يا أخي – أنني حين أقطف ثمار الأشجار ، أو أحصد زرع الأرض ، فإنني أقسم ما يخرج منها ثلاثة أقسام :
أتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي الثلث الثاني ، وأردّ في الأرض ثلثه الأخير .
قال عابر السبيل : بهذا حُقّ لك التكريم في الدارين ... فطوبى لك يا أخي ، وبارك الله لك فيما صرفْتـَه في دنياك ، وما ادّخرتهُ لآخرتك